برد
حياته :
هو بشار بن برد بن يرجوخ ، فارسي الأصل ، ينتهي نسبه إلى يستاسب بن لهراسف الملك ، وكان يرجوخ من طخارستان فسباه المهلب بن أبي صفرة ، وجاء به إلى البصرة ، وجعله من قن امرأته خيرة القشيرية فولد عندها بردا ، فلما كبر برد زوجته خيرة ، ووهبته لامرأة من عقيل من قيس عيلان ، كانت متصلة بها ، فولدت له امرأته بشارا ، فأعتقته العقيلية ، فانتسب إلى بني عقيل بالولاء .
وكان يكنى أبا معاذ ويلقب بالمرعث لأنه كان في أذنه وهو صغير رعاث شأن غلمان وهي الحلى التي تعلق بالآذان ، وهي عادة قديمة عندهم .
بشار في صباه :
نشأ بشار في بني عقيل نشأة عربية خالصة ، فاستوى لسانه على الكلام الفصيح لا تشوبه لكنة ، ولما أيفع أبدى فسلم من الخطأ .
وكان برد والده طيانا ، وولد بشار مكفوفا ، فكان برد يقول : ((ما رأيت مولودا أعظم بركة منه ، ولقد ولد لي وما عندي درهم ، فما حال الحول حتى جمعت مائتي درهم)) .
وقال بشار الشعر وهو ابن عشر سنين ، ونزعت نفسه إلى الهجاء ، فلقي الناس منه شرا ، ولم يحجم عن التعريض لجرير ، فاستصغره جرير ولم يرد عليه .
وكان إذا هجا قوما ، جاؤوا أبيه فشكوه ، فيضربه ضربا شديدا ، فكانت أمه تقول : ((كم تضرب هذا الصبي الضرير ، أما ترحمه!)) ، فيقول : ((بلى والله إني لأرحمه ، ولكنه يتعرض للناس فيشكونه إلي)) ، فسمعه بشار فطمع فيه فقال له : ((يا أبتِ إن هذا الذي يشكونه مني إليك هو قول الشعر ، وإني إن ألممت عليه ، أغنيتك وسائر أهلي ، فإن شكوني إليك ، فقل لهم : أليس الله يقول : ليس على الأعمى حرج)) ، فلما عاودوه شكواه قال لهم ما قاله بشار ، فانصرفوا وهم يقولون : ((فقه برد أغيظ لنا من شعر بشار)) .
فيتبين لنا من ذلك أن بشارا طبع على الشعر منذ حداثته ، وطبع معه على الهجاء والشر وحب التكسب والسخر بالدين والناس ، فقد عرف بذكائه الفطري أن والده ساذج جاهل ، فعبث به لينجو من عقابه ، ولم يتحوب من العبث بآية القرآن ، فأولها إلى غير معناها ، وجعل الأعمى بريئا من الإثم إذا اقترفه ، والآية لا تقصد إلا إعفاءه من التكاليف التي لا قبل له بها كالجهاد .
بشار في العصر الأموي :
أدرك بشار بني أمية وبني العباس ، فهو من مخضرمي شعراء الدولتين ، ويقول صاحب الأغاني : ((إنه شهر في العصرين ، ومدح وهجا ، وأخذ سني الجوائز)) ، ولكن لم يصل إلينا من شعره ما يدلنا على اتصاله بالخلفاء الأمويين ، ولو اتصل بهم ومدحهم لذكر ذلك أبو الفرج ، وغيره من مؤرخي الأدب الأقدمين ، ولا نخالهم يغفلون هذا الأمر ، وقد عنوا بتدوين أتفه الأخبار عنه .
وروي أن الوليد بن يزيد كان يطرب لشعر قاله بشار متغزلا ، ويرويه ويبكي ، وهو الذي أوله : ((أيها الساقيان صبا شرابي)) ، ولكن بشارا لم يتصل بالوليد بل لبث في البصرة لا يبرحها .
ولعل أول رحلة تجشمها كانت إلى حران ، فوفد إلى سليمان بن هشام بن عبدالملك ، فمدحه بقصيدة بائية ، وكان سليمان بخيلا ، فلم يعطه شيئا ، وقيل بل أعطاه خمسة آلاف درهم ، فاستقلها وردها عليه ، وخرج من عنده ساخطا وهجاه ، وربما كانت له وفادة على مروان بن محمد ، فلم يعطه .
أو أن مروان وعده بشيء ، وأخلف وعده ، فهجاه بأبيات لم يصلنا منها غير بيت واحد يقول فيه :
لمروان مواعد كاذبات كما **** برق الحياء وما استهلا
وجملة القول أن بشارا لم يحظ عند خلفاء بني أمية ، وإنما لبث في البصرة يمدح الولاة والقواد ، ويشبب بالنساء ، وله فيهم صواحب أشهرهن عبدة أو عبيدة .
وكان إلى ذلك شديد الاتصال برجال العلم والدين ، وكانت البصرة حافلة بهم في ذلك العهد ، فصاحب واصل بن عطاء شيخ المعتزلة ، وصال بن عبدالقدوس ، وعمرو بن عبيد وغيرهم من أصحاب الكلام ، ولكن واصلا لم يلبث أن جافاه وهتف به لما بلغه من إلحاده ، وحرض الناس على قتله .
وجافاه أيضا عمرو بن عبيد ، فناصر واصلا على الهتف به والتشنيع عليه ، وشد أزرهما جلة من علماء الدين كالحسن البصري قاضي البصرة زكبير فقهائها ، ومالك بن دينار العالم الزاهد ، فما زالوا حتى نفوه من البصرة حوالي 127 هـ ، فقصد إلى مدينة حران وافدا على سليمان بن هشام بن عبدالملك ، ولكنه انصرف عنه مغاضبا كما مر بنا ، فاستدعاه أمير العراقين يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري ، فأقام الكوفة بمدحه ، ويمدح قيس عيلان حتى سقطت الدولة الأموية ، وقتل يزيد بواسط سنة 132 هـ ، فرجع إلى البصرة ، وقد مات واصل بن عطاء ، على أن عمرو بن عبيد لم يتركه يطمئن في أرضه بل سعى في نفيه ثانية ، فظل يتنقل من بلد إلى بلد حتى توفي عمرو بن عبيد سنة 145 هـ ، فأفرخ روعه وأنست به البصرة زمنا ، فأقام يمدح ولاتها حتى ارتحل إلى بغداد واتصل بالعباسيين .
بشار في العصر العباسي :
كان بشار مبعدا عن البصرة لما انتقلت الخلافة إلى بني العباس ، ومات السفاح ولم يتصل به شاعرنا ، ولا تمكن من العودة إلى البصرة ، وما كاد يستخلف أبو جعفر المنصور حتى هب الحزب العلوي من رقدته يطالب بالإمامة بعد أن رضي بالصمت على عهد السفاح لأنه قرب الطالبيين ، وأما أبو جعفر فكان بخيلا لا يدر دره ، وعاتيا ظلاما يضطهدهم ويسيء معاملتهم ، فخرج عليه الأخوان محمد وإبراهيم ابنا عبدالله بن حسن بن الحسن بن علي ، فثار محمد في المدينة فبايع أهلها ، وأفتى بصحة البيعة الإمام مالك بن أنس ، وثار إبراهيم بالبصرة وكان بشار منفيا عنها ، فأرسل إليه من الكوفة بقصيدته الميمية الشهيرة ، يحرضه بها على المنصور ، ويمدحه ويشير عليه ، ولكن الأخوين لم يوفقا في ثورتهما ، وظفر بهما المنصور وقتلهما .
وأبى الله تعالى أن تصل قصيدة الشاعر الضرير إلى إبراهيم ، أو أنها وصلت إليه وضاعت ، فلم يروها رواية ، لأن المنصور لم يطلع عليها إلا بعد أن قلبها بشار وجعل التحريض فيها على أبي مسلم الخراساني ، والمدح والنصر للمنصور .
ولو رويت لأبي جعفر على حالها الأول لما سلمت عنق بشار ، ولعل هذه القصيدة بعد تغييرها ، كانت السبب في اتصال الشاعر بالمنصور والحظوة عنده ، على أننا لا نعتقد أنه عاش منعما في كنفه ، أو أنه أكثر من مدحه ، وقد عرف هذا الخليفة ببخله وجفاف يده حتى لقب بالدوانيقي لإلحافه في محاسبة العمال والصناع على الحبة والدانق .
بشار والمهدي :
ولما ولي المهدي الخلافة اتصل به بشار اتصالا وثيقا ، وأخذ يفد إليه ويأخذ جوائزه ، وكان شعره قد طار وتناقله الناس ، وكان المهدي شديد الحب للنساء ، غيورا عليهن ، فبلغته أبيات لبشار فيها مجون وتعهر ، فلما قدم عليه استنشده الشعر فأنشده إياه ، فغضب الخليفة وقال : ((ويلك أتحض الناس على الفجور ، وتقذف المحصنات المخبآت ، والله لئن قلت بعد هذا بيتا واحدا في نسيب لآتين على روحك)) .
فلما ألح على بشار في ترك الغزل ، شرع يمدحه ويقول أنه قد ترك الغزل ، وودع الغواني ، ثم يأخذ في قص حوادثه الماضية ، فيتأسف عليها ويصف النساء اللواتي صاحبهن فلا يخلو كلامه من الغزل ، ولم يكن خبثه في هذا الأسلوب ليخفي على المهدي ، فأظهر له جفوة وحبس عنه عطاياه ، فكان يمدحه فلا يحظى منه بشيء ، ولو جعل مدحه بغير تشبيب .
وحاول أن يتقرب من وزيره يعقوب بن داود فلم يحفل به ولا أذن له ولا أعطاه ، فرحل إلى البصرة غاضبا ، وأخذ يهجو المهدي ووزيره ، فكان طول لسانه سببا في هلاكه ، لأن الخليفة سخط عليه وأراد أذيته ، فاتفق أن رآه مرة في البصرة يؤذن وهو سكران في غير وقت صلاة ، فنسبه إلى الزندقة ، وأمر بضربه فضرب سبعين سوطا حتى مات ، ولما نعي إلى أهل البصرة ، تباشروا وتصدقوا لما كانوا منوا به من لسانه .
وجاء في معاهد التنصيص أنه دفن مع حماد عجرد الشاعر الخليع ، فكأن الأقدار شاءت أن تجمع بين هذين الشاعرين في قبر واحد ، بعد أن تنافرا شطرا من حياتهما وتقارضا أقذع الهجاء .
صفاته وأخلاقه :
قال الأصمعي : ((كان بشار ضخما عظيم الخلق والوجه مجدورا ، طويلا جاحظ المقلتين ، قد تغشاهما لحم أحمر ، فكان أقبح الناس عمى وأفظعه منظرا ، وكان إذا أراد أن ينشد يصفق بيديه ، وتنحنح وبصق عن يمينه وشماله ، وكان أشد الناس تبرما بالناس ، وكان يقول : ((الحمد لله الذي ذهب ببصري لئلا أرى من أبغض))
وكان فاسقا شديد التعهر محبا للهو ، مدمنا للخمرة ، يلتمس اللذة ويجد في طلبها ويهوى النساء لأجلها ، لا شغفا بالجمال وهو لا يراه ، ولم يخلص في حبه لإمرأة لأن عاطفته الحيوانية كانت تحمله على الإسراف في الاستمتاع وطلب الجديد منه ، فيستخدم شعره في إفساد النساء ، وحضهن على الفحش ليتاح له التنقل من صاحبة إلى صاحبة .
وكان متكبرا كثير الاعتداد بنفسه ، لا يرى فوقه شاعرا ولا عالما ، وتكبره جعله شديد الافتخار بنسبه ، حتى لا يجد له معادلا غير قريش وكسرى ، وجعله يشبب بجمال صورته على ما فيها من دمامة وقبح فيقول :
وإني لأغني مقام الفتى **** وأصبي الفتاة فما تعتصم
ويرد على أبي دلامة عندما عيره القبح ، فيقول في وصف نفسه : ((إني لطويل القامة ، عظيم الهامة ، تام الألواح ، أسجع الخدين)) .
وهذا الكبر ولد فيه احتقارا للناس ، كما ولد فيه العمى كرها لهم ، فكان شديد النقمة عليهم لتمتعهم بالنظر دونه وهو يرى أنه خيرهم ، وكل ذي عاهة جبار ، وبغضه للناس جعله كثير التهكم بهم ، قليل الأدب في مجالستهم ،والسخرية صفة لازمة لبشار ، فإنه يستهزئ بكل شيء .
وهو على بغضه للناس يحب أبناءه ويرأف بهم ، وقد مات له ولد فجزع عليه جزعا شديدا ، ويحب أخوته ويعطف عليهم ، وكان له أخوان قصابان ، أحدهما يقال له بشر والآخر بشير ، فكانا يستعيران ثيابه فيوسخانها ، فأراد منعهما فلم يمتنعا ، فإذا أعياه الأمر خرج إلى الناس في تلك الثياب على وسخها فيقال له : ((ما هذا يا أبا معاذ ؟)) ، فيقول : ((هذه ثمرة صلة الرحم)) .
ويحب أصدقاءه ويبرهم ، ويحفظ لهم الوداد بعد موتهم فيرثيهم ، وكان إلى ذلك حاد الذهن ، شديد الذكاء ، نير البصيرة ، سريع التنبه ، دقيق الحس ، ذرب اللسان ، حاضر البديهة .
منزلته :
أجمع الرواة أو كادوا على أن بشار زعيم الشعراء المحدثين ، وكان الأصمعي شديد الإعجاب به ، فإذا سئل عنه قال : ((بشار خاتمة الشعراء ، والله لولا أن أيامه تأخرت لفضلته على كثير منهم)) ، وقد فهم بشار عقلية النقاد في عصره فقال : ((أزرى بشعر الاذان)) .
وقال ابن شرف القيرواني : ((شعره ينفق عند ربات الحجال ، وعند فحول الرجال ، فهو يلين حتى يستعطف ، ويقوى حتى يستنكف)) ، وسئل بشار : ((بم فقت أهل دهرك ، وسبقت رجال عصرك؟)) ، فقال : ((لأني لم أقبل كل ما تورده علي قريحتي ، ويناجيني به طبعي)) .
ولكنه على عنايته بتنخل شعره لم يخرج به عن طبعه ، وإنما أضاف إليه براعة الفن فصقله وهذبه ، وتصرف فيه تصرف المالك في ملكه ، وكان لأصله الفارسي أثر في شاعريته فعنت له أغراض لم تخطر لشعراء العرب الخلص .
تلونه في نسبه :
كان بشار شعوبيا متعصبا للفرس ، ينكر الولاء ويتبرأ منه ، ويحض الموالي على رفضه ، ولكنه كان مع ذلك يفتخر ببني عقيل وقيس عيلان ويدافع عنهم ويهجو أعداءهم ، فإذا انتسب إلى الفرس جعل أسرته في مستوى أسرة كسرى :
ورُب ذي تاج كريم الجد **** كآل كسرى أو كآل برد
وإذا انتسب إلى عقيل جعل أصله في الرأس منهم :
إنني من بني عقيل بن كعب **** موضع السيف من طلى الأعناق
وسأله المهدي يوما : ((فيمن تعتد يا بشار؟)) ، فقال : ((أما اللسان والزي فعربيان ، وأما الأصل فأعجمي)) وأنشد :
ألا أيها السائلي جاهدا **** ليعرفني أنا أنف الكرم
نمت في الكرام بني عامر **** فروعي وأصلي قريش العجم
علومه :
كان بشار عالما فقيها متكلما ، ولولا زندقته لعد من كبار أئمة الدين ، وعرف بطول باعه في معرفة الغريب ، والوقوف على أساليب العرب الصرحاء ، وبنقد الشعر ، وتمييز صحيحه من منحوله ، وصدق ظنه في تقدير الجوائز ، فقد كان يزنه بمعيار تأثيره في نفس الممدوح ، وموقعه من سياسته وهواه .
آثاره :
قيل : إن أكثر الناس شعرا في الجاهلية والإسلام ثلاثة : بشار وأبو العتاهية والسيد الحميري ، وتحدث بشار عن نفسه فقال : ((إن لي اثني عشر ألف قصيدة)) ، ولكن لم يبق لنا من هذا القدر الكبير إلا نزر يسير .
وظل شعر بشار متداولا إلى عهد ابن خلكان ، فقد جاء في كتابه وفيات الأعيان في الكلام على بشار : ((وشعر بشار كثير سائر فنقتصر منه على هذا القدر)) ، وأورد بعض مقطعات منه .
على أن هذا الشعر قد ضاع أكثره ، ولم يخلص إلينا إلا أقله ، ولولا صاحب الأغاني ، وما دون من أشعار بشار ، وأخباره لما وصل إلينا منها ما يستحق الذكر.